«حبل» .. تحفة سينمائية تنصّل منها هيتشكوك ومنحها الجمهور أعلى تقدير

حول العالم

«حبل» .. تحفة سينمائية تنصّل منها هيتشكوك
ومنحها الجمهور أعلى تقدير

هناك الكثير من ما يستحق التوقف عنده فى مسيرة الفريد هيتشكوك التي امتدت لستة عقود متتالية الممتدة أخرج خلالها للسينما ما يزيد عن خمسين فيلماً، لكن تلك المحطات المتميزة تجبرنا أكثر على التوقف أمامها طويلاً .

ولعل فيلم “حبل” الذى قدمه عام 1948 هو واحد من أهم هذه المحطات، فهو أول فيلم أخرجه مستخدماً فيه خاصية الألوان التقنية، كما أنه أكثر أفلامه إثارة للجدل الأخلاقى نظراً لما احتوى عليه من ايحاءات مثلية الجنس،

وهو ما كان يعتبر من المحرمات فى تلك الفترة، ما جعل بعض دور العرض الأميريكية ترفض عرضه فى بعض الولايات، برغم أن هذه الايحاءات كانت شديدة ومتحفظة بل وتنكر هيتشكوك فى طرحها لدرجة يصعب اكتشافها على من ليس لديه خلفية عن المصدر الذى استلهم منه الفيلم!

وهنا يجب الإشارة إلى أن هذا الفيلم مقتبس عن مسرحية لباتريك هاميلتون بنفس العنوان، وهى نفسها مستوحاة من أحداث حقيقية لجريمة قتل ارتكبها طالبان كانا يدرسان في جامعة شيكاغو فى عشرينيات القرن الماضى وقد عُرفت إعلامياً بـ”جريمة لويب وليوبولد”.

وعندما حولها “هيوم كرونين” مع هيتشكوك إلى نص سينمائى أضيفت على القصة الحقيقية الكثير من التعديلات، فأصبحت تدور حول “براندون” و”فيليب” وهما رجلان يعيشان سوياً فى شقة بإحدى بنايات مدينة نيويورك،

ويقرران قتل أحد زملائهم وإخفاء جثته داخل تابوت أثرى ثم الإنتظار حتى يأتى المساء ليتمكنا من التخلص من الجثة. كل هذا بغرض الإثارة، من أجل تحقيق مبدأ الجريمة الكاملة،

ولكى تزيد جرعة الإثارة فقد قرر “براندون” إقامة حفلة سكر فى نفس اليوم دعا إليه المعارف المشتركين بينه وبين القتيل وكان من بينهم والد القتيل نفسه، بالإضافة إلى “روبيرت” أستاذهم الجامعى السابق، وهو شخصية شكّاكة وفيلسوف وصاحب نظريات مادحة لفعل القتل.

لكن استخدام الألوان وتيمة المثلية الفرعية وقصة الجريمة الصادمة لم يكونا وحدهما العاملان الأبرز فى هذه التجربة، بل كان ذلك في الأسلوب التقنى المميز الذى تم تصوير الفيلم به،

وهو موقع التصوير الواحد مع أسلوب اللقطات الطويلة الممتدة الملتحمة بفواصل خفية ما يعطى المتفرج إيحاء بأن الـ80 دقيقة مدة الفيلم قد تم التقاطها مباشرة ودون فواصل.

وكان هذا الأسلوب ثورياً وفريداً من نوعه فى تلك الفترة خاصة لو علمنا أن السعة القصوى التى كانت تتحملها الكاميرات لا تزيد عن 15 دقيقة للقطة الواحدة.

وقام هيتشكوك بتصوير الفيلم على 10 تتابعات، انهى كل تتابع عن طريق تسليط الكاميرا على ظهر أحد الشخصيات أو على مكان خالٍ من الحركة، ما مكنه من عملية لحام كل تتابع بالتتابع التالى دون أن يشعر المتفرج بأن هنالك قطعا يحدث.

وبالرغم من تلك العوامل الصادمة والأسلوب الفريد من نوعه، إلا أن التجريبية بهذا الفيلم لم تقنع نقاد تلك الفترة، فاستقبلوها استقبالاً فاتراً، وأيضاً لم يختلف رد فعل الجمهور كثيراً عن النقاد، ما جعل الفيلم لا يحقق النجاح المنتظر منه فى شباك التذاكر.

ولعل هذا ما جعل هيتشكوك يدلى بتصريحاته الكارهة للفيلم خلال لقاءاته التى أجراها مع الناقد والمخرج الفرنسى “فرانسوا تروفو” مؤلف كتاب بعنوان “هيتشكوك”، حيث قال عن الفيلم “.. لقد كان مجرد استعراض.”،

ويقصد باستعراض المعنى الإدعائى الرخيص منه، أى أنه لم يكن هناك غرض واضح من استخدام أسلوبه غير التقليدى بهذا الفيلم، ويضيف “.. لا أعلم كيف انجرفت وراء تلك النزوة.”

وفى دراسة للناقد “فيليب ماثير” عن الفيلم اقتبس جزءاً من كتاب “سينما هوليوود الكلاسيكية” لديفيد بوردويل حين قال: “.. خلال حقبة الأربعينيات كانت هناك ظاهرة من التسابق بين المصورين على من سيقدم اللقطات الأطول والأعقد.”

ويذكر “ماثير” عناوين بعض أفلام تلك الحقبة التى تجلّت فيها تلك الظاهرة مثل “سيدة البحيرة” و”النفق المظلم” و”كاسبا” “والبندقية المجنونة”، فهل كانت تلك نزوة (على حد وصفه) خاضها هيتشكوك كمجرد رغبة صبيانية منه فى إنهاء ذلك التسابق لصالحه بالضربة القاضية.

لكن الناقد “فينسينت كانبى” بمجلة النيويورك تايمز” يختلف مع “فيليب ماثير” ومع هيتشكوك نفسه، وذلك من خلال مقال كتبه عن الفيلم ونشر عام 1984،

يفسر فيه كانبى إقبال هيشكوك على هذا الأسلوب فيقول “لقد كان متحمساً ليعرف إذا كان باستطاعته العثور على معادل سينمائى للمسرحية، والتى تدور فى زمن وقوع الأحداث الفعلى …

وما نتج عن ذلك هو فيلم ذو تقنية ساحرة وغير تقليدية تسبب الارتجاف وهو ما يتناسب مع موضوع الفيلم بمثالية .. ربما لا يكون تحفة هيتشكوك الفنية، ولكن المرء لن يستطيع إدراك عمق أصالة هذا الفنان دون رؤية هذا الفيلم.”

ويمكننا من تاريخ مقال كانبى ومن عوامل أخرى أن نلاحظ أن موجة التعاطف مع أسلوب الفيلم تزداد بالتدريج مع مرور السنين، ويكمن التجلّى الأول لهذه الظاهرة عند الناقد والمخرج الفرنسى “إيريك رومير”،

فبرغم كونه أحد الأنصار التاريخيين لسينما هيتشكوك إلا أنه انتقد أسلوبه فى هذا الفيلم حين كان ناقداً فى خمسينيات القرن الماضى، ولكنه بعد ما يقرب من 10 أعوام وحين صار صانع أفلام تأثر بهذا الأسلوب بوضوح فى فيلمه الأشهر

“ليلتى عند مود” عام 1968 وهو الفيلم الذى غلب على مدته الزمنية موقع تصوير واحد بلقطات ممتدة لكنها متصلة.
ويبدو تأثر “وودى آلن” فى فيلم “سبتمبر” 1987

بنفس الأسلوب وبشكل أكثر صراحة من فيلم رومير وإن ابتعد الفيلمان عن تيمة الجريمة. إلا أن الدليل الأكبر على ظاهرة التعاطف الحديث هذه تكمن فى ردة فعل الأجيال الجديدة

من مستخدمى موقع قاعدة بيانات الأفلام على الإنترنت IMDb الذين أعطوا الفيلم متوسط تقييم وصل إلى 8.1/10 ما جعله من أفلام هيتشكوك القليلة التى دخلت قائمة أفضل 250 فيلماً فى التاريخ فى مفارقة تاريخية حين يتنصّل فيها فنان من عمل قام به ثم يأتي الجمهور بعد عقود من الزمان ليعلن تقديره للعمل وبالطبع تميز من قدمه.