هيتشكوك.. مخرج الأماكن الضيقة والجرائم الكاملة

حول العالم

هيتشكوك.. مخرج الأماكن الضيقة والجرائم الكاملة

يقول الناقد الأمريكي أندرو ساريس في مقدمة كتابه عن نظرية المخرج المبدع

(إنه هو الذي يحافظ على وحدة الأسلوب والموضوع بالرغم من وجود القيود التي تفرضها الأستوديوهات وأساليب الإنتاج الخاصة بأفلام كل أستوديو على حدة).

والمعروف أن الأستوديوهات الأمريكية تصنع أفلاماً تميزها عن غيرها. فمثلا ً أستوديو متروجولدن في بداياته كانت أفلامه تتميز بإنخفاض التكاليف والديكورات القليلة،

والتي يتم بناء الجزء الذي يظهر منها في الكادر وحده وتكون إضاءة تلك المشاهد ضعيفة، والذي يعوض النقص الجمالي للمشهد هو استخدام اللقطات القريبة.

وعلى النقيض فإن أستوديوهات كولومبيا مثلا تبني ديكورات شوارع كاملة وتتميز أفلامها باللقطات البعيدة التي تظهر جماليات الديكور.

والمبدع في نظام الأستوديوهات في هوليوود هو المخرج الذي يسمو فوق السيناريو الذي يفرضه عليه الأستوديو، بفرض رؤياه الخاصة كما يقول وارن بكلاند.

كان ألفريد هيتشكوك من المخرجين الذين يتم اعتبارهم مبدعين كفرانك كابرا وجون فورد مثلا، حيث تميزت أفلامه جميعها بتناسق في الأسلوب والموضوع والرؤية،

وسوف نعرض أهم مميزات سينما هيتشكوك، سينما الإثارة والتشويق والإبداع.

1- العناوين:

لم يكن اختيار عناوين الأفلام عند هيتشكوك اعتباطيا، ولم يكن اختيارها أيضا لأية اعتبارات جماهيرية مثلا، بل كانت العناوين جزءا مهما من الفيلم وعنصرا فاعلا في أحداثه أو عنوان حل اللغز أو علامة لبداية الذروة.

في فيلم (الحبل 1948) مثلا، كان الحبل الذي تباهى بحمله جون دل أحد منفذي جريمة القتل، هو مفتاح اكتشاف لغز جريمتهم.

وفيلم (مكالمة من أجل القتل 1954) كان التقصي وراء مكالمة هو سبب كشف اللغز أيضا. وفيلم (الشك 1941) بدأت ذروته عندما شكت خوان فونتين في تورط زوجها كاري جرانت في قتل صديقه.

وكذلك فيلم (دوار 1958) الذي كانت فيه تلك الدوخة التي أصابت جيمس ستيوارت بسبب فوبيا الأماكن المرتفعة سببا في عدم اكتشافه جريمة قتل كان يحقق فيها.

2- الممثلون طيبو الملامح:

تميز أبطال هيتشكوك الأشرار والطيبون بأنهم ذوو ملامح هادئة جدا، وكان ممثلوه سابقا بارعين جدا في تأدية أدوار الشخصيات الطيبة كجيمس ستيوارت مثلا في أفلامه مع فرانك كابرا وكان نموذجا للهدوء والطيبة،

وجريس كيلي الأميرة الناعمة الحالمة، وكاري جرانت وخوان فونتين وانجريد بيرجمان، وكل ذلك حتى يدعم هيتشكوك عنصر المفاجأة الدرامية شكلا وموضوعا وحتى يخالف دائما توقعات المشاهد لانفعالات الشخصيات أو أدوارها أصلا، فجاء ستيوارت مثلا محققا لا يهدأ وجاء كاري جرانت عصبيا جدا وانجريد امرأة لعوب.

3- السيناريو محدود المعرفة:

كانت هناك مجموعة من سيناريوهات أفلام هيتشكوك محدودة المعرفة، أو أحادية الحكي، ذات مستوى واحد من مستويات السرد أي أننا نرى الحكاية في الفيلم من خلال الشخصية الرئيسية فيه كفيلم (الطيور 1963).

وأيضا تميزت بمحدودية المعلومات التي يعرفها المشاهد وأحيانا لا يرى مشهدا مهما جدا أثناء عملية القتل التي تغير مسار الفيلم كالتي حدثت في (النافذة الخلفية 1954).

وكل ذلك كان يفعله هيتشكوك لزيادة الألفة من قبل المشاهد تجاه الشخصية الرئيسية للفيلم حتى يتوحد مع انفعالاته ومشاعره تجاه الخطر والعاطفة القوية.

4- الإعتراف بالذنب:

تأثرت سينما هيتشكوك بنشأته الكاثوليكية، فكانت مسألة الاعتراف بالذنب شائعة في أفلامه، كاعتراف الزوج بمحاولته لقتل زوجته في (مكالمة من أجل القتل)،

واعتراف جون دل بجريمته أمام جيمس ستيوارت في (الحبل)، ومبدأ الاعتراف هذا أو التطهر من الذنب هو أحد التقاليد الكاثوليكية عند الذهاب للكنيسة من أجل التطهر من الخطايا.

5- الرجل الخطأ:

من أهم مميزات أفلام هيتشكوك مخالفة توقعات المشاهد دائما، فعندما يتوقع المشاهد ردة فعل ما من إحدى الشخصيات تجاه بعضها، يخالف هيتشكوك توقعنا،

كما حدث مثلا في (الشك) عندما اعتقدنا شرا بأن كاري جرانت قتل صديقه بسبب الأدلة التي قدمها لنا الفيلم، وخالف المخرج توقعنا كالعادة.

أو عند القبض على الرجل الخاطئ كما حدث لهنري فوندا في فيلم (القبض على لص 1955).

6- الجريمة الكاملة:

تتفنن شخصيات هيتشكوك دائما في تنفيذ الجريمة الكاملة، التي تعتمد أركانها على عدم وجود دافع قوي للقتل كما حدث في (الحبل)،

أو عدم وجود دليل للعثور على منفذ الجريمة (سايكو 1960)، أو اختفاء الجثة (النافذة الخلفية)، وتلك الأساليب في السرد مميزة جدا عند هيتشكوك، وتساعد في حيوية الفيلم واستمرار الاثارة حتى آخر ثانية في الفيلم.

7- لقطات وجهة النظر:

من أشهر اللقطات في السينما والتي سميت بنفس اسم الفيلم (The Vertigo Effect)، كانت لقطة وجهة نظر لما تراه عين جيمس ستيوارت المصاب بفوبيا الأماكن المرتفعة في فيلم (دوار 1958) عندما كان يصعد السلم وفجأة شعر بعدم استقرار توازنه فنظر إلى أسفل السلم.

وتمثل لقطات وجهة النظر عند هيتشكوك حوالي 25% من استخدامه للكاميرا في أفلامه كما يذكر الناقد وارن بكلاند في كتابه (من هيتشكوك لتارانتينو).

8- كاميرا الحقيقة:

استخدم هيتشكوك الكاميرا في أفلامه للتعبير عن المشاعر المضطربة ولكشف الحقائق والكذب أحيانا. فـفي فيلم (الحبل) عندما كان جون دل يحكي عن هدوئه وحقيقة غياب صديقه،

تحركت الكاميرا لتكشف لنا حجم التوتر الذي يشعر به من خلال كشف التوتر على صديقه، ولكي تكشف لنا كذبه أيضا، وعندما ابتعدت الكاميرا عن خوان فونتين لتظهر لنا الكراسي التي اشتراها أبوها وهي معروضة في محل البيع في فيلم (الشك)،

أو عندما كشفت لنا الكاميرا حقيقة مقتل الرجل الذي تم قطع قدمه في فيلم (قارب النجاة 1963).

9- التصوير في أماكن ضيقة:

تفرض الأماكن الضيقة حدودا لإمكانيات المخرج، كما تظهر لنا مدى براعته أو ضعفه في تنفيذ الحلول الإبداعية التي تثير ذهن المشاهد ولا ترهق عينيه من تكرار المكان. فكما كان فيلم (12 رجل غاضب1957)

للمخرج سيدني لوميت، من أصعب الأفلام التي تم تنفيذها في مكان مغلق، كان من أشهر أفلام الأماكن الضيقة (قارب النجاة – النافذة الخلفية – الحبل)،

من أهم كلاسيكيات السينما العالمية أيضا ومن أهم أفلام هيتشكوك التي تم تصويرها في أماكن مغلقة وضيقة، فمرة داخل قارب نجاة ومرة شقة صغيرة ومرة صالة منزل كبيرة.

10- المونتاج الكثيف:

تأثر هيتشكوك بالمونتاج الديالكتيكي الروسي، وهو مونتاج همه الأول والأخير التحكم في مشاعر المشاهد بأقصى درجة كما يصفه جيل دولوز.

استخدم هيتشكوك في تصوير مشهد القتل الشهير من فيلم (سايكو) حوالي 35 لقطة متنوعة في نصف دقيقة فقط، وفي فيلم الطيور أيضا استخدم عددا كبيرا جدا من اللقطات المتنوعة في تصوير هجوم الطيور وكذلك في أفلام كثيرة،

استخدم هيتشكوك فيها المونتاج التركيبي أيضا لإثارة مشاعر المشاهد، عندما كان يتنقل بين الأحداث التي تقع في مكان واحد، كتلصص المحقق على الزوج المتهم في جريمة القتل في (مكالمة من أجل القتل).